وثيقة العهد الديمقراطي العربي – سراييفو 2024

العهد الديمقراطي العربي 

في ظل هذه المرحلة الحرجة التي تشهد تعثّر مسار الربيع العربي في بلداننا، وتصاعد أزمة الديمقراطية على الصعيد العالمي، حتى في معاقلها التقليدية، بالإضافة إلى تنامي الشعبوية وصعود اليمين المتطرف في العديد من دول العالم، وتحوّل طبيعة الاستبداد إلى أشكال غير مسبوقة في قوتها وتغلغلها، بفعل تطور تكنولوجيا المراقبة والتأثير،

اجتمعنا نحن؛ الديمقراطيين العرب المنخرطين في هذا العقد؛ لنتأمل في مسار الديمقراطية في بلداننا وما يتطلبه من جهود لاستمرار شعلة الأمل والعمل التي أطلقتها الثورات الديمقراطية للربيع العربي. وبعد نقاشات معمّقة، اتفقنا على صياغة رؤية مشتركة لديمقراطية عربية تكون نقطة التقاء بيننا، نلتزم جميعًا بالدعوة إليها والعمل على نشرها في المجالات الثقافية والاجتماعية والسياسية، تمهيدًا لتمكينها من تولي زمام الحكم وإدارة شؤون الدولة والمجتمع. ومن أساسيات هذه الرؤية المشتركة:

1- نعتبر أن تاريخ الشعوب هو سلسلة متواصلة من الصراعات من أجل بناء مجتمع إنساني تحكمه القيم، وليس الغرائز الحيوانية. هذا التاريخ يمكن اختزاله في أربعة مسارات متتابعة ومتكاملة، هي: صراع تحرير الأفراد من العبودية والذي تحقق عبر الثورات والحروب الأهلية، ثم صراع تحرير المرأة من الإيديولوجيا الذكورية من خلال التعليم والقوانين، ثم صراع تحرير الشعوب من الاستعمار عبر حروب الاستقلال. وأخيرًا، وليس آخرًا، صراع تحرير الشعوب من الاستبداد. وبناءً على ذلك، فإن معركتنا من أجل الديمقراطية تمثل الفصل الأخير في هذا الصراع التاريخي لتحرير الإنسان العربي من كافة أشكال انتهاك حقوقه، كما وردت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

2- إن تصدّينا للاستبداد ينبع من رفضنا لاستهتاره بكرامة الأفراد والشعوب، حيث يحتقر ذكاءهم وقدراتهم وحقوقهم المشروعة، ويعتمد على العنف والإعلام المضلل والمسرحيات الانتخابية لإخضاعهم. إضافة إلى احتقاره للمؤسسات والقوانين والأعراف، واحتقاره للمعارضين ووصمهم بالخيانة والعمالة والتآمر. هذا الاستبداد وسياساته التحقيرية يخلق شعوبًا تعاني من أمراض نفسية ومشاعر النقص والهوان وكره الذات، ويحولهم إلى رعايا خاضعين يقبلون انتهاك كرامتهم، ويفضلون المقاومة السلبية خوفًا من القمع. ولأن مطلب الكرامة الذي ترفعه كل ثوراتنا هو محرك المشروع الديمقراطي، فإننا نؤمن أن الديمقراطية ليست فقط نظام حكم، بل عملية تحرير شاملة من هذا الإذلال الجماعي. إنها السبيل الوحيد لتحويل شعوبنا من رعايا إلى مواطنين أحرار ومبدعين، يتمسكون بحقوقهم ويتحملون مسؤولياتهم دون إكراه.

3- نتبنى بالكامل الهدف الرئيسي المشترك بين جميع الأحزاب والمنظمات الديمقراطية في العالم، وهو إنهاء الصراع الدموي على السلطة من خلال الانتقال السلمي عبر انتخابات حرة ونزيهة، واعتماد الطرق المدنية السلمية أداة للفصل في الخلافات الفكرية والايديولوجية والسياسية. ونسعى لضمان القيم الأساسية التي توفرها الديمقراطية، أساسا التداول السلمي للسلطة، والفصل بين السلطات، والمشاركة الشعبية الحقيقية، وتكريس الحقوق السياسية والمدنية للأفراد: حرية التعبير، وحرية الصحافة، وحرية المعتقد، وحق التنظم والتظاهر السلمي، وضمان كرامة المواطن، في ظل دولة القانون والمؤسسات واستقلال القضاء. ونؤكد على تطبيق مبادئ الشفافية والحكم الرشيد والمساءلة ومكافحة الفساد، وعلى حق الشعوب في ممارسة رقابة فعلية على ثرواتها، والمشاركة في إدارة شؤونها.  كما نحرص على المساواة وتكافؤ الفرص بين جميع مكونات المجتمع ، رجالا ونساء، من مختلف الأجناس والطوائف، دون أي شكل من أشكال التمييز.

إضافة إلى هذه القواسم المشتركة، لدينا نحن العرب ثلاثة أهداف خاصة تشكل دافعًا إضافيًا لانخراطنا في المشروع الديمقراطي:

أالديمقراطية سبيلنا للتحرر من الاستعمار: من خلال تجربتنا التاريخية لأكثر من قرن، تعلمنا أن الاستبداد في العالم العربي والاستعمار وجهان لعملة واحدة. فكل نظام استبدادي عربي هو في الأساس زبون تابع لقوة خارجية غربية أو غير غربية، تحميه وتستغلّه لضمان سيطرتها ومواصلة تحكّمها في شعوبنا وثرواتنا. لذلك، نرى في الديمقراطية ليس فقط وسيلة للتحرر من الاستعمار الداخلي الذي هو الاستبداد، بل امتدادًا لمعارك الاستقلال الأول التي خاضها آباؤنا وأجدادنا. هدفنا هو تحقيق السيادة الحقيقية، وقطع كل أشكال التبعية المهينة، حيث أن الاستبداد ليس إلا وكيلا ووريثا للاستعمار. كما نحرص على وحدة أوطاننا، ورفض مخططات التقسيم والتدخل الخارجي التي تستهدف منطقتنا. وعزمنا على السعي الدائم لحماية أوطاننا من أي احتراب داخلي، وألا تكون الحروب الأهلية والعنف سبيلنا في التغيير.

بالديمقراطية لتحقيق العدالة الاجتماعية: نحن ندرك من خلال التجربة في أكثر من بلد عربي أن الديمقراطية التي تركز فقط على شكل النظام السياسي، والمهووسة بفكرة الحرية كما تروج لها الأنظمة الليبرالية الغربية، لا حظوظ لها في ربح معركة العقول والقلوب في منطقتنا. أولوية الأولويات بالنسبة لنا هي الخروج من الفقر، والتصدي للفساد، وبناء التنمية المستدامة، وتحقيق العدالة في توزيع الثروة الجماعية. لهذا نريد ديمقراطيتنا، ليس فقط سيادية اتحادية، وإنما أيضا اجتماعية تجعل الحرية في خدمة العدالة الاجتماعية، وتجعل العدالة الاجتماعية دعامة أساسية للحرية.

ج الديمقراطية أداتنا لبناء فضاء التضامن العربي:  نحن أمة عظيمة، فخورة بتاريخها وهويتها وحضارتها العريقة ومساهمتها في تاريخ البشرية. لكننا اليوم نشهد في عجز تام التنكيل بالشعب الفلسطيني، أشجع شعوبنا، نتيجة تفرق الأمة إلى اثنتين وعشرين دولة ضعيفة، تابعة، ومتناحرة، عاجزة عن التعاون حتى في أبسط المجالات، فما بالك بتشكيل وحدة صلبة تستطيع حماية الأمن القومي للأمة أو لشعب من شعوبها. هذا العجز سببه طبيعة الأنظمة الاستبدادية التي لا تتحد فيما بينها أبدا، بل تتنازع على النفوذ. لذا نرى أن الديمقراطية، كما أثبتت تجربة الاتحاد الأوروبي، هي السبيل الوحيد لبناء اتحاد الشعوب العربية الحرة والدول المستقلة القادر وحده على الدفاع عن مصالحنا وحقوقنا المشروعة.

4- نجدّد قناعتنا بأن الفرز الحقيقي في النضال السياسي اليوم أصبح بين الديمقراطيين والاستبداديين، ولم يبق بين التقدميين والرجعيين، أو الإسلاميين والعلمانيين، أو القوميين والوطنيين. فالاستبداد يجسّد كل الآفات التي نحاربها: التبعية، والفساد، والانعزالية، ومواجهة قيمنا العربية والإسلامية. في المقابل، فإن مشروعنا الديمقراطي يُحيي مطالبنا الأزلية في الحرية، والعدالة، والاستقلال، ويعتمد على أدوات العصر لتحقيق نظام الشورى، الخيار السياسي الأول لأمتنا، الذي فشل في الاستمرار بسبب افتقاره للآليات والمؤسسات التي نجح الغرب في تطويرها لتحقيق توجه مماثل. لذلك، ندعو إلى تجاوز الانقسامات الأيديولوجية القديمة، وتوحيد الجهود بين مختلف التيارات، تحت مظلة “العهد الديمقراطي العربي”، بهدف بناء فضاء سياسي تعددي يحقق أحلامنا المشتركة ويدفع نحو مستقبل أفضل.

5- نرفض الخلط بين الأنظمة الغربية التي تدعم الصهيونية والاستبداد العربي، وبين الديمقراطية كمنظومة قيم وأفكار. ونقدّر عاليا موقف القوى الديمقراطية في الغرب التي وقفت إلى جانب أهلنا في غزة، في حين غابت عن المشهد شعوب الرعايا في العالمين العربي والإسلامي. لكننا نرفض بشكل واضح أي تبعية لسياسات أنظمة ذات معايير مزدوجة، تتنكر للمبادئ التي تدّعي الدفاع عنها وتمثيلها.

وإذا كنا نعتبر أن النموذج الغربي للديمقراطية هو الأكثر نجاعة في مواجهة الاستبداد، فإن تجربته على مدى أكثر من قرن تظهر حدوده. حيث يتبيّن كم هو سهل على القوى المعادية للديمقراطية استغلال أدواتها – مثل الانتخابات وحرية الرأي وحرية التنظم – لتفريغ الديمقراطية نفسها من مضمونها، بل وحتى جعلها غطاء للأنظمة الاستبدادية.

لذلك، نتعهد بتكثيف التفكير والتشاور مع الديمقراطيين حول العالم، الذين يواجهون التحديات ذاتها، من أجل بلورة آليات وقوانين ومؤسسات تحمي هذه الأدوات من الوقوع في قبضة المال الفاسد والشعبوية الرثة، بالإضافة إلى حمايتها من الأشكال الجديدة للاستبداد التي تملكها الشركات الكبرى المتحكمة في تكنولوجيا الاتصالات.

6- نؤكد حرصنا على تحقيق نموذج ديمقراطي ناجز وفعّال يتجاوز الشكليات، ليصل إلى جوهر الديمقراطية، وندعو جميع القوى الحية التي تشاركنا حلم التحرر الشامل إلى الانضمام لهذا العهد، وإثرائه بما لا يتعارض مع خياراته الأساسية، والعمل على نشره ودمجه في برامجها التكوينية والنضالية في كل المؤسسات الثقافية والمجتمعية والنقابية والحزبية التي تناضل ضد الاستبداد.

كما نعلن تسريع وتيرة التنسيق وتبادل الخبرات والدعم بين جميع التيارات الديمقراطية العربية، إيمانًا منا بضرورة توحيد الجهود في مواجهة غرفة العمليات الموحدة التي أفشلت الربيع العربي، والتي ما زالت تعمل على تأبيد الاستبداد. ونتعهد أيضًا بالتنسيق مع القوى الديمقراطية حول العالم، لأن عولمة الاستبداد وتفاقم شراسته وقدراته تتطلب رص الصفوف على المستويين العربي والدولي لمواجهة هذا الخطر المشترك.

7- نتجمّع تحت راية هذا العهد، عاقدين العزم على النضال من أجل تحقيق ديمقراطية عربية مواطنية، سيادية، اتحادية، اجتماعية، يكون هدفها الأسمى بناء دول قانون ومؤسسات، وخلق شعوب من المواطنين الذين يتمتعون بالاحترام الكامل لأشخاصهم، ولحقوقهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولتعدّديتهم الثقافية والدينية والعرقية. شعارنا الدائم هو: حتى لو ربح الاستبداد المحلي والعالمي ألف معركة، نحن من سنربح الحرب.